د.حسين رشيد
اذا اردنا ان نستقصي كلمة الصيام في اللغات ومعانيها فسنصل الى حقيقة أن أصل كلمة الصيام ومعناها اللغوي يتجاوز في جميع اللغات خاصة القديمة منها معنى الانقطاع عن ممارسة أمور معينة، وخصوصاُ الانقطاع الجزئي أوالكلي عن الطعام والشراب لفترة أوفترات قصيرة أوطويلة.
فكلمة صوم العربية ذات الأصل السرياني لا تعني الانقطاع عن الطعام والشراب فقط بل هي عملية عبادة ذات أبعاد دينية وروحية ونفسية واجتماعية وصحية في أن واحد.
والمقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية، فالجوع يكسر من حدتها وسورتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة، وهوكذلك يضيق مجاري الشيطان، وهوسر بين العبد وربه، لا يطلع عليه سواه، وقبل ذلك كله هوعبادة لله، فالصائم يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل الله، وذلك حقيقة الصيام، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الصوم جنة، فإذا كان صوم يوم أحدكم، فلا يرفث، ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم)
فكثيرة هي الرحمات التي يمن بها الله تبارك وتعالى على الانسان، ولعل من اكثر الرحمات التي من الله بها على عباده شهر رمضان المبارك الذي جعله الله سبحانه وتعالى جنة من النار كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله (الصوم جنة من النار) وقد قيد الله تعالى في هذا الشهر الشياطين كما قال (صلى الله عليه وآله): ( قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه، يفتح فيه أبواب الجنة، ويغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم) وجعله خالصا له سبحانه فقال في حديثه القدسي
(كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشرة أمثالها إلا الصوم فانه لي وانا أجزي به) وقال في محكم كتابه العزيز (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ البقرة/183 أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ البقرة/184 شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) البقرة/185،
وكان صلى الله عليه وسلم يعظم الصيام في رمضان ويعمل فيه غير الذي يعمله في غيره من الشهور، فقد أمر صلى الله عليه وآله وسلم أمَّته بحُسن الخُلق خصوصاً للصائمين منهم فقال: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه وكان يتعاهد أهله ويُحسن عشرتهم في رمضان أكثر من غيره.
ولم يكن يدع السِّواك في رمضان وغير رمضان؛ يطهِّر فاه ويُرضي ربَّه وكان صلى الله عليه وآله وسلم يُجاهد في رمضان، ويأمر أصحابه بالفطر ليقْوَوا على ملاقاة عدوِّهم.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد في العبادة والقيام في رمضان ما لا يجتهد في غيره، خصوصاً في العشر الأواخر يلتمس ليلة القدر، وكان يعتكف في رمضان خصوصاً في العشر الأواخر واعتكف في العام الذي توفي فيه عشرين يوماً، وكان لا يعتكف إلا صائماً.
وأمَّا مدارسته للقرآن فلم يكن أحد يجتهد اجتهاده، وكان جبريل يلقاه فيدارسه القرآن في رمضان لأنه شهر القرآن.
وأمَّا جوده وكرمه في رمضان فلا يوصف؛ فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم كالريح المرسلة بالخير لا يَخشى من ذي العرش إقلالاً. ومن خلال ذلك كله يتضح لنا سبب اهتمام الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله بشهر رمضان المبارك.
فالصوم هوفي حقيقته فرض من الفروض التي يجب على العبد ان يؤديها، ولكن الله سبحانه وتعالى يحب ان يرى عبده يؤدي الفرائض بنفس مطمئنة ومحبة ويكون دافعه هوحب الله سبحانه وتعالى فالمحب مطيع لمحبوبه على كل الاحوال غير مخالف له ولا مجادل وعلى هذا الاساس كان جزاء الصيام في الآخرة لا مثيل له، فقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انه قال : (للجنة باب يدعى الريان يدخل فيه الصائمون، قال: فاذا دخل آخرهم أغلق)، والمؤمنون المتقربون الى الله تعالى بأعمالهم يبتغون بكل وسيلة ان يكون صيامهم خالصا لله تعالى وعلى هذا الاساس كان صيام العارفين بالله تعالى على هذا النحوفهم لم يكتفوا بالامتناع عن الطعام والشراب والانتهاء عن كل ما ينهى عنه الله تعالى، بل انهم حاولوا بكل ما أؤتوا من قوة ان يطلبوا رضى الله سبحانه وتعالى فلم يكتفوا بالفرائض فتفرغوا للعبادات بأنواعها والتي هي من أجلها الصوم، ومن اروع ما نقل في هذا الباب من الاخبار انه ورد عن الحجاج انه خرج ذات يوم فأصحر وحضر غداؤه فقال: اطلبوا من يتغدى معي فطلبوا فإذا أعرابي في شملة فأتي به.
فقال: السلام عليكم.قال: هلمّ أيها الاعرابي قال : قد دعاني من هواكرم منك فأجبته. قال: ومن هو؟ قال : دعاني الله ربّي الى الصوم فأنا صائم. قال: وصومٌ في هذا اليوم الحار؟ قال: صمت ليومٍ هوأحرّ منه .قال: فأفطر اليوم وصم غداً. قال: ويضمن لي الامير أن أعيش الى غدٍ؟ قال: ليس ذاك اليه. قال: فكيف يسألني عاجلاً بآجل ليس اليه؟ قال: إنه طعامٌ طيّب، قال: ما طيّبه خبّازك ولا طبّاخك. قال: فمن طيّبه؟ قال: العافية. فقال الحجاج: تالله ما رأيت كاليوم، اخرجوه عني.
فالصوم في حقيقته هومحاولة لترويض النفس على الطاعة ومحبتها وتعويدها على السلوك المرضي من قبل الله سبحانه وتعالى ولأجل ان يكون الانسان متقيا قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)البقرة/183،
فكلمة التقوى تشتمل على معان كثيرة منها الخوف من الله والعبودية المطلقة له وتطبيق أوامره والقبول بما وهبه الله من هبات ونعم لا تحصى وشكره على ذلك وتحضير النفس لليوم الآخر. والتقوى أيضاً هي الانضباط الذاتي وضبط النفس في الحياة الخاصة عندما يخلوالإنسان إلى ذاته وفي الحياة العامة أوالاجتماعية. والصوم من أقوى الأدوات التي تمكن المسلم من بلوغ درجات عالية من التقوى. فحقيقة الصوم لا تقف عند الامتناع عن الاكل والشرب بل تتعداه لصوم العين والأذن واليد والقدم، وكذلك فهوصوم عن المحرمات وصوم عن المكروهات وصوم عن الشبهات. وقد ورد في بعض الروايات ان من يكذب في شهر رمضان المبارك أويغتب أحداً، أويتهم أحداً، أويجرح بلسانه أحداً فإن صومه باطل. وان للصائم الحقيقي دعوة مستجابة عند الإفطار، وإذا صامت جوارحه وأعضاؤه كما صامت بطنه فبإمكانه الوصول بتكامله السلوكي إلى درجة عالية ورفيعة في الأيام الأخيرة من الشهر الفضيل.
وقد ورد انه سمعَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) امرأة تسب جارية لها وهي صائمة فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بطعام، فقال لها كلي فقالت: إني صائمة، فقال: كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك، إن الصوم ليس من الطعام والشراب.
وقد ورد كذلك أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم) أمر الصائمين استحباباً بأن يستأذنوه عند الافطار، وفي وقت الافطار حضر رجل مسن واستأذن النبي الافطار له ولابنتيه. فقال النبي: أنت صائم فاذهب وأفطر، ولكن ابنتيك ليستا صائمتين. فقال: يا رسول الله أنا مطمئن أنهما صائمتان، فقال: اذهب وقل لهما أن يتقيئا واعطاه جرة واسعة الفوهة، وعندما عمل بطلب النبي، سقطت من فمي الفتاتين قطعتان من اللحم، فتعجب من ذلك لأنهما لم تأكلا لحماً، وكان ذلك اللحم نتناً. وعندما سأل النبي عن العلة؟ قال: ألم تقرأ القرآن :إن من يغتب يأكل لحم الميتة، ان الفتاتين مع كونهما صائمتين تكلمتا بغيبة الناس. اما صيام العارفين بالله تعالى فهوبالاضافة الى صوم الجسد صوم القلب من خواطر السوء ومن الصفات الرذيلة كالحسد والبخل وسوء الظن والتكبر والعجب وغيرها، يعني أن القلب يصوم عن الالتفات لغير الله، فالعارف عندما يصوم لا يوجد في قلبه غير الله. إن هذا النوع من الصوم ليس لنا، ولكن الذي يوفق في صومه الشرعي وصومه الأخلاقي يستطيع الوصول إلى هذا المقام آخر شهر رمضان المبارك. وهويوافق قول الله سبحانه وتعالى (لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) وقال ايضا يمدح العارفين به (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة).
ولذلك كله كان العارفون بالله تعالى لا يسأمون من الصيام وهم دائما ما يهتمون بالباطن اكثر من اهتمامهم بالظاهر، ولذلك كان صومهم بحق صوم الجوارح الذي هوما يريده الله سبحانه وتعالى منا جميعا جعلنا الله واياكم جميعا من الصائمين صوما حقيقيا صوم الجوارح لا صوم البدن غفر الله لنا جميعا ووفقنا لأداء فضيلة الصيام والعبادة في هذا الشهر الفضيل والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
صيام العارفين
Keine Kommentare:
Kommentar veröffentlichen