عندما نطالع كتب الأدب العربي نجدها زاخرة باللطائف والنوادر الأدبية التي تطبّع بها الانسان العربي على مختلف مستوياته الثقافية. فالعربي بطبعه يميل في الغالب الى النكتة ويتتبع النادرة اينما كانت، وهذه سمة خاصة به، وهي بسبب كونه انسانا اجتماعيا لا يحب الوحدة ويقطن حيث يقطن الناس فيأنس بهم وبحكاياتهم ومن هذا المنطلق كان اهتمام العربي بالحكايات والنوادر واللطائف، وقد التفت القرآن الكريم الى هذه النقطة بشكل واضح فأورد في كثير من آياته قصص الانبياء واخبار الماضين على سبيل العبرة والعضة. وعلى هذا الاساس كان العلماء يفضلون العلم على غنى المال لحاجة الناس الى العلم اكثر من حاجتهم الى المال:
قيل لأحد الحكماء: الأغنياء أفضل أم العلماء ؟ قال: العلماء. قيل له : فما بال العلماء يأتون أبواب الأغنياء أكثر مما يأتي الأغنياء أبواب العلماء ؟
قال : ذلك لمعرفة العلماء بفضل المال وجهل الأغنياء بحق العلم.
ولذلك صار طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة في الاسلام. بل هو فريضة على كل الناس. ومن خلال العلم نحصل على الخير كما نستطيع ان نحصّن انفسنا من الشر. ومن خلال العلم ايضا نستطيع ان نقرأ النوادر واللطائف التي اتسم بها الانسان العربي كما أكدت لنا كتب الادب العربي.
ومن هذه اللطائف، يحكى أن الخليفه هارون العباسي كانت لديه جاريه تدعى خالصه وكانت فائقة الجمال والحسن وكان يحبها حباً شديدا .. واستدعى أبا نؤاس عنده في الديوان ليلقي عليه الشعر بحضور خالصه، وعندما انتهى أبو نؤاس من إلقاء الشعر لم يلتفت إليه الخليفه أو يستحسن شعره على الرغم من أن أبا نؤاس قال أحسن ما عنده للخليفة .. فاغتاظ أبو نؤاس أشد الغيظ وهو يعلم أن الخليفه مشغول بملاطفة خالصه والتغزل بها وتجاهل شعره … وبحضور أبي نؤاس أهدى الخليفة خالصة عقدا ثمينا مرصعا بأغلى الجواهر .. ولم يكافئ أبا نؤاس نظير إلقائه أروع الشعر في مدح الخليفه أو حتى يستحسن الشعر .. فاستأذن أبو نؤاس من الخليفة بالانصراف وتوجه إلى باب غرفة خالصة وكتب عليه :
لقد ضاع شعرى على بابكم… كما ضاع عـقــدٌ على خالصه
وذهب أبو نؤاس إلى بيته … وعندما رأت خالصة ما كتبه أبو نؤاس على باب غرفتها غضبت وذهبت تشتكي للخليفة .. فجن جنون الخليفه وأمر الحرس بإحضار أبي نؤاس ليعاقب على فعلته الشنيعة .. وعندما علم أبو نؤاس أن الخليفه غاضب علم بالأمر وسبب غضب الخليفة .. وذهب للخليفة مع الحرس ولكنه قبل أن يدخل على الخليفة مر على باب خالصة وقام بمسح تجويف العين من كلمة ضاع في الشطرين لتصبح ضاء ويتغير المعنى من ذم لمدح .. وعندما دخل على الخليفة سأله : لقد طلبتني أيها الخليفة لأمرٍ هام .. فقال له الخليفة : ما هذا الذي كتبته يا أبا نؤاس على باب خالصة ؟؟ فقال له أبو نؤاس بكل براءة ،، لم أكتب إلا كل خير يا سيدي فلقد مدحت ولم أر سبباً لكل هذا الغضب .. دعنا نذهب جميعا ونرى ما كتبت بكل ثقة … فقال له الخليفة والله يا أبا نؤاس لو كذبت لأقطعن رأسك .. فلما ذهبوا جميعا .. وإذا بالخليفة يرى دهاء وذكاء وسرعة بديهته لتغيير معنى كلمة ضاع إلى ضاء … وأصبح البيت يقرأ هكذا :
لقد ضاء شعرى على بابكم…. كما ضاء عقدٌ على خالصه
فضحك الخليفة وقال لأبي نؤاس والله يا خبيث لقد قمت بمسح تجويف حرف العين وغيرت المعنى … وهو معجبٌ أشد الإعجاب بذكاء أبي نؤاس وأمر الحاجب بأن يكافئ أبا نؤاس بحفنة من الدنانير وانصرف ..
وهذه القصة مما لا شك تنبئ عن مدى عمق تفكير الشعراء العرب آنذاك.
وحادثة اخرى جرت لأبي الاسود الدؤلي المعروف حيث كان لأبي الأسود الدؤلي جار متطفل لا يأتيه إلا وقت الطعام فيأكل ما بين يديه ولا يترك له شيئا, وكان من طبيعة هذا المتطفل أن يشد أبا الأسود لكلامه وهو ينشغل بالأكل ففطن أبو الأسود إلى نيته، فأتاه مرة وهو يتناول طعام الغداء في السوق, فجلس المتطفل بجانبه وسلم عليه، فرد أبو الأسود السلام، ثم قال له : إني مررتُ بأهلك، قال أبو الأسود : كذلك كان طريقك، قال : وامرأتك حبلى، قال أبو الأسود : كذلك كان عهدي بها، قال : فقد ولدت، قال أبو الأسود : كان لا بد لها أن تلد، قال : ولدت غلامين، قال أبو الأسود : كذلك كانت أمها، قال : مات أحدهما، قال أبو الأسود : ما كانت تقوى على إرضاع الاثنين، قال: ثم مات الآخر، قال أبو الأسود : ما كان ليقوى على البقاء بعد موت أخيه، قال: وماتت الأم، قال أبو الأسود : ماتت حزنا على ولديها، قال : ما أطيب طعامك! قال أبو الأسود : لذلك أكلته وحدي ووالله لا ذقته يا متطفل.
د. حسين رشيد الطائي
من لطائف الأدب العربي
Keine Kommentare:
Kommentar veröffentlichen