لم يعد يخفى على أحد أن المسألة المالية باتت منذ سنوات من أهم المسائل التي تؤثر بطريقة سلبية على توجهات القيادة الفلسطينية، وتساهم أيضا في تأزيم العلاقات بين القوى الفلسطينية.
المسألة المالية، التي نقصد، لا تتوقف فقط على ضعف الإمكانيات المالية للفلسطينيين، ولا على القلق بشأن انتظام أو عدم انتظام الدعم المالي المقدم للسلطة من قبل ما تسمى “الدول المانحة”، والداعمة لما تسمى “عملية السلام”، فحسب، وإنما تشمل أيضا الضغوط الإسرائيلية المتمثلة في قطع مستحقات السلطة من الضرائب التي تجبيها عن الواردات إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة (1967).
ومعلوم أن إسرائيل اعتادت بين فترة وأخرى استعمال هذا الأسلوب للضغط على القيادة الفلسطينية، لفرض الإملاءات التفاوضية عليها، وهو ما حصل مؤخرا بقرار نتنياهو الامتناع عن تسليم مستحقات السلطة المالية (حوالي 130 مليون دولار شهريا) كعقاب لها على التوجه للانضمام لعضوية المنظمات الدولية.
وفوق هذا كله، باتت ثمة مشكلة مالية أخرى تتعلق بتسهيل متطلبات المصالحة، واستعادة وحدة النظام الفلسطيني بين الضفة وغزة، والتي يقف على رأسها استيعاب حوالي 30 أو 40 ألفا من موظفي السلطة في غزة من التابعين لحركة حماس (في منظور حركة فتح والسلطة)، وتأمين رواتبهم الشهرية.
وللعلم فإن موازنة السلطة الفلسطينية تبلغ حوالي أربعة بلايين دولار سنويا، يتأتى أقل من ربعها فقط، أي حوالي 980 مليون دولار، من ضرائب محلية، في حين يتأتى بقية المبلغ من إيرادات المقاصة، عبر إسرائيل، وقدره 1722 مليون دولار سنويا، ومن دعم ما تسمى الدول المانحة الذي يقدر بحوالي 1400 مليون دولار سنويا، أي أن أكثر من ثلاثة أرباع موارد السلطة تتأتى من مصادر خارجية، لا تسيطر عليها، أو لا تملك إزاءها شيئا، وضمن ذلك تبدو إسرائيل هي صاحبة اليد الطولى، علما أن هذه أموال الفلسطينيين ذاتهم، مما يبين مدى اعتماد السلطة وارتهانها للأموال المتأتية من مصادر خارجية.
فوق ذلك ثمة عوامل عديدة تفاقم مشكلة الاعتماد على الخارج عند الفلسطينيين من الناحية المالية، أولها أن إسرائيل تسيطر على المجال الفلسطيني من كل النواحي، أي على المعابر والصادرات والواردات وحركة رؤوس الأموال وتعاملات البنوك، وأنها تشتغل وفق منهج يتأسس على خنق الفرص الاقتصادية للفلسطينيين، ومنع أي استقلالية لهم.
وثانيها، أن السلطة منذ إقامتها لم تنتبه للمخاطر التي تنجم عن التبعية المالية للخارج، وأنها فرطت باستقلالها الاقتصادي بتوقيعها اتفاقية باريس (1994)، التي جعلت إسرائيل تقوم بدور الوسيط في استقطاع الضرائب عن الواردات، وتسليمها للسلطة، وفي علاقات التبعية الاقتصادية لإسرائيل من كل النواحي.
وثالثها، أن السلطة في غمرة توهمها بشأن اتفاق أوسلو منذ عقدين لم تنتبه أيضا إلى مخاطر تضخيم جهاز الموظفين لديها، وربما تقصدت ذلك لامتصاص اليد العاملة، بغرض تشكيل قاعدة اجتماعية واسعة مؤيدة لها، ويشمل ذلك تضخم الأجهزة الأمنية، التي لا تفعل شيئا لحماية المواطن الفلسطيني في مدن الضفة من اعتداءات المستوطنين أو الجنود الإسرائيليين.
بالنتيجة فقد بات لدى السلطة جهاز موظفين، في السلكين المدني والأمني، يناهز 160 ألف موظف (ما عدا موظفي حماس وأجهزتها الأمنية في غزة) لحوالي أربعة ملايين فلسطيني في الضفة وغزة، علما أن كتلة الرواتب والأجور في السلطة تناهز 2000 مليون دولار، مما يشكل نصف موازنة السلطة، وبحيث بتنا إزاء قطاع واسع من الفلسطينيين يعتمد كليا على الخارج في إعالته ومعاشه.
ولا شك أن حالة مثل هذه تولد تأثيرات أو تشوهات كثيرة اجتماعية ونفسية وسياسية، فنحن إزاء طبقة لا ترتبط بأي نمط إنتاجي، وليس لها صلة مباشرة بالمصالح السياسية والاقتصادية للفلسطينيين، مما يعني تولد وعي سياسي، وربما أولويات وقيم سياسية ووطنية مختلفة.
وفي المحصلة فإن هذا الوضع يساهم في إضعاف إجماعات الفلسطينيين، وضمن ذلك تفارق مواقفهم إزاء الاحتلال أو إزاء التخلص من الاحتلال، لاسيما أنه يضع جزءا كبيرا منهم إزاء مفاضلة صعبة وخطيرة، بين تمسكهم بحقوقهم الوطنية، وبين حفاظهم على لقمة عيشهم.
المشكلة أن جميع الفصائل الفلسطينية تدرك العلاقة الخطيرة، والاختلال الكبير، في تبعية السياسة للشأن المالي، لكن المؤسف أن أيا منها لم تتصرف على أساس ذلك، وإنما على العكس، إذ إن جميع الفصائل، المؤيدة والمعارضة لأوسلو، تطالب بإلحاح بحصتها من هذه الأموال، ويأتي ضمن ذلك مطالبة حماس بتأمين رواتب موظفيها، وهو أمر مشروع بالطبع من الناحية المبدئية.
وفي الواقع فإن هذه الحال بالذات من بين أمور أخرى تفسر عجز، أو تردد، هذه الفصائل إزاء التفكير في خيارات سياسية بديلة، وارتهانها بدورها، من الناحية العملية، لمعادلات السلطة الناجمة عن اتفاقات أوسلو، رغم كل ما تفعله إسرائيل في الأراضي المحتلة.
فوق كل ذلك، فإن هذا الوضع يثير التساؤلات عن قضيتين، أولاهما اعتماد هذه الكيانات وضمنها الفصائل في مواردها المالية على المصادر الخارجية أكثر بكثير من اعتمادها على المصادر المتأتية من شعبها. وثانيتهما خطورة الدور الذي لعبه المال السياسي في تجويف أو إفساد الحركة الوطنية الفلسطينية من حيث المبنى والمعنى.
ومعلوم أن العمل الوطني الفلسطيني، منذ بداياته قبل حوالي نصف قرن، احتاج إلى موارد مالية هائلة للصرف على العمل المسلح، وضمنه على قواعد ومعسكرات التدريب والبنية الخدمية والأجهزة الإدارية، كما على سفارات وإعلام ومستشفيات ومكاتب ومرتبات أسر شهداء وجرحى وأسرى، وفي مرحلة من المراحل كان ثمة عشرات ألوف المتفرغين.
وإذا كان مفهوما أن الدعم المالي الذي حصلت عليه الحركة الوطنية الفلسطينية، منذ بداياتها، سهّل عليها عملها، وساهم في تطوير قدراتها، وتعدد أنشطتها، فإنه أدى في ما بعد إلى تضخم أجهزة هذه الحركة، وتحولها إلى نوع من سلطة، كما حصل في الأردن ولبنان في أواخر الستينيات وعقد السبعينيات، ثم في الضفة والقطاع، بعد إقامة الكيان الفلسطيني في العقدين الماضيين، مما شكل عبئا ماليا كبيرا على السلطة، والحركة الوطنية الفلسطينية، من الناحيتين المالية والسياسية.
ولعل ما يثير الاستغراب حقا، في هذه القصة، أن الكيانات السياسية الفلسطينية، التي لها من العمر أكثر من أربعة عقود، لم تشتغل على تأمين شبكة أمان مالية خاصة بها، من الأعضاء المنتسبين، ومن المناصرين والمتعاطفين معها، ومن الاستثمارات التي أُتيحت لها في العديد من الدول في مراحل سابقة، باعتبار أن ذلك يساهم في تعزيز استقلاليتها، ويضمن صدور مواقفها عن رؤية وطنية خالصة.
كما يثير الاستغراب أن معظم هذه الكيانات، التي استمرأت تضخيم عدد المتفرغين الموظفين لديها، بغض النظر عن كفاءاتهم واستعداداتهم النضالية، وفي معزل عن الحاجة العملية لهم، لم تحاول البتة مراجعة هذا السلوك، للتخفيف من العبء المالي الذي يقع على كاهلها جراء ذلك.
بالمحصلة، فإن هذا الوضع المالي الفوضوي، وغير المحسوب، والمعطوف على كيانات سياسية تفتقر إلى المأسسة والعلاقات الديمقراطية، وقواعد المكاشفة والمحاسبة، أدى لترهل هذه الحركة، وتيبس بناها، فضلا عن إثارة شبهة الفساد من حولها.
وقد كان من النتائج الأولية لهذا التضخم تآكل الأهلية النضالية لمعظم الكيانات السياسية، التي بات الانخراط فيها، بالنسبة لكثيرين، يعني الأخذ لا العطاء، ونيل الامتيازات السلطوية، بدلا من الإسهام في المشاركات النضالية، مما أضر بفاعليتها ومكانتها، وبالتالي بصدقيتها.
هكذا يبدو، وعلى ضوء كل ما اختبرته التجربة الفلسطينية، أن المال السياسي لعب دورا كبيرا في جمود، أو تيبس النظام السياسي الفلسطيني، وإعاقة تطوره، فنظام المحاصّة (الكوتا)، كما هو معروف، لا يقتصر على الموارد المالية فقط، وإنما يشمل حق كل الفصائل في التمثل في مؤسسات منظمة التحرير أيضا، أي في لجنتها التنفيذية وفي المجلسين الوطني والمركزي، وذلك بغض النظر عن دور هذه الفصائل ومكانتها وفاعليتها.
ولا حاجة بنا هنا إلى التأكيد أن معظم الفصائل الفلسطينية القائمة إنما تدين بوجودها لنظام “الكوتا” الفصائلي، المالي والسياسي فقط، بالنظر إلى افتقادها لأي مبرر، أو تمايز، من النواحي الفكرية أو السياسية أو النضالية، وبالنظر إلى انعدام تأثيرها سواء في ميدان الصراع ضد العدو، أو في أوساط شعبها.
وكانت الانتخابات التشريعية الثانية 2006 أكدت ذلك، إذ تمخضت عن فوز حركتي فتح وحماس بغالبية المقاعد الـ132، ونيل الجبهة الشعبية ثلاثة مقاعد، وحصول الجبهة الديمقراطية مع حزبي الشعب و”فدا” على مقعدين فقط، في حين غابت باقي الفصائل، وحصل تيار “المبادرة الوطنية”/مصطفى البرغوثي على مقعدين، و”تيار الطريق الثالث”/فياض وعشراوي على مقعدين أيضا.
ويتبين من ذلك أن نظام “الكوتا” المالي والسياسي هو الذي ضمن استمرار “الستاتيكو” الفصائلي القائم، وأنه من دون ذلك لربما اختفت غالبية الفصائل، أو لربما وجد بعضها نفسه مضطرا لمراجعة أحواله، ودراسة جدوى وجوده.
وللتذكير، فإن الأعراض المرضية للدعم المالي الخارجي لم تمس المنظمة والسلطة وفتح فحسب، وإنما مست كل الفصائل، وضمنها “اليسارية”، التي ظلت تتغذى، أو تعتمد على أموال المنظمة والسلطة، والتي دأبت على الدوام على المطالبة بحصتها، سواء كانت هذه الأموال متأتية من دول عربية، أو متأتية من الدول الغربية الإمبريالية، كالولايات المتحدة وكندا ودول الاتحاد الأوروبي!
واضح أن المال السياسي ربما سيبقى يلعب لعبته الخطرة في تجويف الحركة الوطنية الفلسطينية، في مبناها ومعناها، ما لم تخلق الظروف التي تدفع هذه الحركة، أو القوى المحركة لها، نحو تغيير قواعد عملها. فهذا الدعم سيظل يشتغل سلبا بتعزيز الاتكال على الخارج، وإفساد الحياة السياسية، وجعل القضايا مجرد ورقة للتوظيف والاستخدام، ناهيك عن شق الصفوف، وتشكيل سلم قيم مختلف مع سلوكيات غريبة عن الروح النضالية.
فوق كل ذلك فالدعم الزائد عن الحد يشجع على خلق توهمات، والدخول في مغامرات عسكرية غير مدروسة، لا علاقة لها بقدرة الشعب على التحمل، أو على استثمار تضحياته ونضالاته، وهذه ملاحظة من واقع تجارب لبنان وفلسطين وسوريا، لأن الأولوية تغدو إثباتا للذات ولخدمة سياسات الداعمين بدلا من خدمة مصالح الشعب والقضية.
هكذا، لا بد من المراجعة النقدية، الشجاعة والمسؤولة، والتي تفضي إلى تخفيف اعتماد الحركة الوطنية الفلسطينية على الموارد الخارجية، لتفويت استهدافات الضغط الإسرائيلي والأميركي عليها وعلى شعبها، والاعتماد على الموارد الذاتية، وضمنها تكييف أشكال العمل والنضال بما يتلاءم مع قدرات الفلسطينيين وإمكانياتهم، فهذا ما يجعل كفاحهم أسلم وأعمق وأقوى أثرا على كينونتهم كشعب، وعلى حركتهم السياسية، وعلى جدوى كفاحهم.
فلسطين
Keine Kommentare:
Kommentar veröffentlichen